الإخوان والصداقة والنصيحة
إستبقاك من عاتبك، وزهد فيك من استهان بسيئاتك. العتاب للصديق كالسبك للسبيكة، فأما تصفو وإما تطير.
من طوى من إخوانك سره الذي يعنيك دونك، أخون لك ممن أفشى سرك، لأن من أفشى سرك فإنما خانك فقط، ومن طوى سره دونك منهم، فقد خانك واستخونك.
لا ترغب فيمن يزهد فيك، فتحصل على الخيبة والخزي.
لا تزهد فيمن يرغب فيك، فإنه باب من أبواب الظلم، وترك مقارضة الإحسان، وهذا قبيح.
من امتحن بأن يخالط الناس، فلا يلق بوهمه كله إلى من صحب، ولا يبن منه إلا على أنه عدو مناصب، ولا يصبح كل غداة إلا وهو مترقب من غدر إخوانه، وسوء معاملتهم، مثل ما يترقب من العدو المكاشف، فإن سلم من ذلك فلله الحمد. وإن كانت الأخرى، أُلفي متأهباً ولم يمت هماً. وأنا أعلمك أن بعض من خالصني المودة وأصفاني إياها غاية الصفاء، في حال الشدة والرخاء، والسعة والضيق، والغضب والرضى، تغير علي أقبح تغير بعد اثني عشر عاماً متصلة في غاية الصفاء، ولسبب لطيف جداً ما قدرت قط أنه يؤثر مثله في أحد من الناس، وما صلح لي بعدها، ولقد أهمني ذلك سنين كثيرة هماً شديداً.
ولكن لا تستعمل مع هذا سوء المعاملة، فتلحق بذوي الشرارة من الناس، وأهل الحب منهم. ولكن ها هنا طريق وعرة المسلك، شاقة المتكلف، يحتاج سالكها إلى أن يكون أهدى من القطا، واحذر من العقعق، حتى يفارق الناس راحلاً إلى ربه تعالى، وهذه الطريق هي طريق الفوز في الدين والدنيا، يجوز صاحبها صفاء نيات ذوي النفوس السليمة، والعقود الصحيحة البرآء من المكر والخديعة.
ويحوي فضائل الأبرار، وسجايا الفضلاء، ويحصل مع ذلك على سلامه الدهاة، وتخلص الخبثاء ذوي النكراء والدهاء، وهي أن تكتم سر كل من وثق بك، وأن لا تفشي إلى أحد من إخوانك ولا من غيرهم، من سرك ما يمكنك طيه بوجه ما من الوجوه، وإن كان أخص الناس بك، وأن تفي لجميع من أئتمنك، ولا تأمن أحداً على شيء من أمرك تشفق عليه، إلا لضرورة لا بد منها، فارتد حينئذ واجتهد، وعلى الله تعالى الكفاية.
وابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك، ولكل من احتاج إليك وأمكنك نفعه، وإن لم يعتمدك بالرغبة، ولا تشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك عز وجل، ولا تبن إلا على أن من أحسنت إليه أول مضر بك، وساع عليك، فإن ذوي التراكيب الخبيثة، يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم. وعامل كل أحد في الأنس أحسن معاملة، وأضمر السلو عنه إن فات ببعض الآفات التي تأتي مع مرور الأيام والليالي، تعش مسالماً مستريحاً.
لا تنصح على شرط القبول، ولا تشفع على شرط الإجابة، ولا تهب على شرط الإثابة، لكن على سبيل إستعمال الفضل، وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة، وبذل المعروف.
حد الصداقة الذي يدور على طرفي محدوده هو أن يكون المرء يسوءه ما يسوء الآخر، ويسره ما يسره، فما سفل عن هذا فليس صديقاً، ومن حمل هذه الصفة فهو صديق، وقد يكون المرء صديقاً لمن ليس صديقه. وأما الذي يدخل في باب الإضافة فهو المصادق، فهذا يقتضي فعلا من فاعلين، إذ قد يحب الإنسان من يبغضه، وأكثر ذلك في الآباء مع الأبناء، وفي الإخوة مع إخوتهم، وبين الأزواج، وفيمن صارت محبته عشقاً، وليس كل صديق ناصحاً، لكن كل ناصح صديق فيما نصح فيه.
وحد النصيحة هو أن يسوء المرء ما ضر الآخر، ساء ذلك الآخر أو لم يسؤه، وإن يسره ما نفعه، سر الآخر أو ساءه، فهذا شرط في النصيحة زائد على شروط الصداقة.
وأقصى غايات الصداقة التي لا مزيد عليها من شاركك بنفسه وبماله لغير علة توجب ذلك، وآثرك على من سواك. ولولا أني شاهدت مظفراً ومباركاً صاحبي بلنسية، لقدرت إن هذا الخلق معدوم في زماننا، ولكني ما رأيت قط رجلين استوفيا جميع أسباب الصداقة، مع تأتي الأحوال الموجبة للفرقة غيرهما.
ليس شيء من الفضائل أشبه بالرذائل من الاستكثار من الإخوان والأصدقاء، فإن ذلك فضيلة تامة متركبة، لأنهم لا يكتسبون إلا بالحلم والجود والصبر والوفاء والاستضلاع والمشاركة والعفة وحسن الدفاع وتعليم العلم، وبكل حالة محمودة. ولسنا نعني الشاكرية والأتباع أيام الحرمة، فأولئك لصوص الإخوان وخبث الأصدقاء، والذين يظن أنهم أولياء وليسوا كذلك. ودليل ذلك إنحرافهم عند إنحراف الدنيا. ولا نعني أيضاً المصادقين لبعض الأطماع، ولا المتنادمين على الخمر، والمجتمعين على المعاصي والقبائح، والمتألفين على النيل من أعراض الناس، والأخذ في الفضول وما لا فائدة فيه، فليس هؤلاء أصدقاء. ودليل ذلك أن بعضهم ينال من بعض وينحرف عنه عند فقد تلك الرذائل التي جمعتهم، وإنما نعني إخوان الصفاء لغير معنى إلا لله عز وجل، إما للتناصر على بعض الفضائل الجدية، وإما لنفس المحبة المجردة فقط. ولكن إذا أحصيت عيوب الاستكثار منهم، وصعوبة الحال في إرضائهم، والغرر في مشاركتهم، وما يلزمك من الحق لهم عند نكبة تعرض لهم، فإن غدرت بهم أو أسلمتهم، لؤمت وذممت، وإن وفيت، أضررت بنفسك، وربما هلكت، وهذا لا يرضى الفاضل بسواه، إذا تنشب في الصداقة، وإذا تفكرت في الهم بما يعرض لهم وفيهم من موت أو فراق أو غدر من يغدر منهم، كاد السرور بهم لا يفي بالحزن الممض من أجلهم.
وليس في الرذائل أشبه بالفضائل من محبة المدح، ودليل ذلك أنه في الوجه سخف ممن يرضى به، وقد جاء في الأثر في المداحين ما جاء، إلا أنه قد ينتفع به في الإقصار عن الشر والتزيد من الخير، وفي أن يرغب في ذلك الخلق الممدوح من سمعه. ولقد صح عندي أن بعض السائسين للدنيا، لقي رجلاً من أهل الأذى للناس، وقد قلد بعض الأعمال الخبيثة، فقابله بالثناء عليه، وبأنه قد سمع شكره مستفيضاً، ووصفه بالجميل والرفق منتشراً، فكان ذلك سبباً إلى إقصار ذلك الفاسق عن كثير من شره.
بعض أنواع النصيحة يشكل تمييزه من النميمة، لأن من سمع إنساناً يذم آخر ظالماً له، أو يكيده ظالماً له، فكتم ذلك عن المقول فيه والمكيد، كان الكاتم لذلك ظالماً مذموماً. ثم إن أعلمه بذلك على وجهه كان ربما قد ولد على الذام والكائد ما لم يبلغه استحقاقه بعد من الأذى، فيكون ظالماً له، وليس من الحق أن يقتص من الظالم بأكثر من قدر ظلمه، فالتخلص من هذا الباب صعب إلا على ذوي العقول. والرأي للعاقل في مثل هذا، إن يحفظ المقول فيه من القائل فقط، دون أن يبلغه ما قال، لئلا يقع في الاسترسال زائد فيهلك. وأما في الكيد فالواجب أن يحفظه من الوجه الذي يكاد منه بألطف ما يقدر في الكتمان على الكائد، وأبلغ ما يقدر في تحفيظ المكيد، ولا يزد على هذا شيئاً. وأما النميمة فهي لما سمع مما لا ضرر فيه على المبلغ إليه وبالله التوفيق.
النصيحة مرتان: فالأولى فرض وديانة، والثانية تنبيه وتذكير، وأما الثالثة فتوبيخ وتقريع، وليس وراء ذلك إلا التركل واللطام، اللهم إلا في معاني الديانة، فواجب على المرء تزداد النصح فيها رضي المنصوح أو سخط، تأذى الناصح بذلك أو لم يتأذ. وإذا نصحت فانصح سراً لا جهراً، وبتعريض لا تصريح، إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك، فلا بد من التصريح. ولا تصرح على شرط القبول منك، فإذا تعديت هذه الوجوه فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة وملك لا مؤدي حق أمانة وأخوة. وليس هذا حكم العقل، ولا حكم الصداقة، لكن حكم الأمير مع رعيته، والسيد مع عبيده.
لا تكلف صديقك إلا مثل ما تبذل له من نفسك، فإن طلبت أكثر، فأنت ظالم. ولا تكسب إلا على شرط الفقد. ولا تتول إلا على شرط العزل، وإلا فأنت مضر بنفسك خبيث السيرة.
مسامحة أهل الاستئثار والاستغنام والتغافل لهم ليس مروءة ولا فضيلة، بل هو مهانة وضعف وتضرية لهم على التمادي على ذلك الخلق المذموم، وتغبيط لهم به، وعون لهم على ذلك الفعل السوء، وإنما تكون المسامحة مروءة لأهل الإنصاف المبادرين إلى الإنصاف والإيثار فهؤلاء فرض على أهل الفضل أن يعاملوهم بمثل ذلك، لا سيما إن كانت حاجتهم أمس، وضرورتهم أشد.
فإن قال قائل: فإذا كان كلامك هذا موجباً لإسقاط المسامحة والتغافل للإخوان فيه استوى الصديق والعدو والأجنبي في المعاملة، فهذا فساد ظاهر. فنقول: وبالله التوفيق كلاماً لا يحض إلا على المسامحة والتغافل والإيثار، ليس لأهل التغنم، ولكن للصديق حقاً، فإن أردت معرفة وجه العمل في هذا الوقوف على نهج الحق، فإن القصة التي توجب الأثرة من المرء على نفسه صديقه، ينبغي لكن واحد من الصديقين أن يتأمل ذلك الأمر، فأيهما كان أمس حاجة فيه، وأظهر ضرورة لديه، فحكم الصداقة والمروءة تقتضي للآخر وتوجب عليه أن يؤثر على نفسه في ذلك. فإن لم يفعل ذلك فهو متغنم مستكثر، لا ينبغي أن يسامح ألبتة، إذ ليس صديقاً ولا أخاً. فأما إذا استوت حاجتهما، واتفقت ضرورتهما، فحق الصداقة ها هنا أن يسارع كل واحد منهما إلى الأثرة على نفسه، فإن فعلا ذلك فهما صديقان، وإن بدر أحدهما إلى ذلك ولم يبادر الآخر إليه، فإن كان عادته هذه فليس صديقاً ولا ينبغي أن يعامل معاملة الصداقة، وإن كان قد يبادر هو أيضاً إلى مثل ذلك في قصة أخرى، فهما صديقان.
من أردت قضاء حاجته بعد أن سألك إياها، أو أردت ابتداءه بقضائها، فلا تعمل له إلا ما يريد هو لا ما تريد أنت، وإلا فأمسك، فإن تعديت هذا كنت مسيئاً لا محسناً، ومستحقاً للوم منه ومن غيره لا للشكر، ومقتضياً للعداوة لا للصداقة.
لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه، ولا ينتفع بمعرفته، فهذا فعل الأرذال. ولا تكتمه ما يستضر بجهله، فهذا فعل أهل الشر، ولا يسرك أن تمدح بما ليس فيك، بل ليعظم غمك بذلك، لأنه نقصك ينبه الناس عليه، ويسمعهم إياه، وسخرية منك وهزؤ بك، ولا يرضى بهذا إلا أحمق ضعيف العقل. ولا تأس إن ذممت بما ليس فيك، بل إفرح به، فإنه فضلك ينبه الناس عليه، ولكن إفرح إذا كان فيك ما تستحق به المدح، وسواء مدحت به أو لم تمدح، واحزن إذا كان فيك ما تستحق به الذم، وسواء ذممت به أو لم تذم.
من سمع قائلاً يقول في امرأة صديقه قول سوء، فلا يخبره بذلك أصلاً، لا سيما إذا كان القائل عيابة، وقاعاً في الناس، سليط اللسان، أو دافع معرة عن نفسه، يريد أن يكثر أمثاله في الناس، وهذا كثير موجود. وبالجملة فلا يحدث الإنسان إلا بالحق، وقول هذا القائل لا يدري أحق هو أم باطل، إلا أنه في الديانة عظيم.
فإن سمع القول مستفيضاً من جماعة، وعلم أن أصل ذلك القول شائع وليس راجعاً إلى قول إنسان واحد، أو إطلع على حقيقته إلا أنه لا يقدر أن يوقف صديقه على ما وقف هو عليه، فليخبره بذلك بينه وبينه في رفق، وليقل له: النساء كثير، أو حصن منزلك، وثقف أهلك، أو اجتنب أمراً كذا، وتحفظ من وجه كذا. فإن قبل المنصوح وتحرز فحظ نفسه أصاب، وإن رآه لا يتحفظ ولا يبالي أمسك ولم يعاوده بكلمة، وتمادى على صداقته إياه، فليس في أن لا يصدقه في قوله ما يوجب قطيعته، فإن اطلع على حقيقة وقدر أن يوقف صديقه على مثل ما وقف عليه هو من الحقيقة، ففرض عليه أن يخبره بذلك، وأن يوقفه على الجلية. فإن غير فذلك، وإن رآه لا يغير اجتنب صحبته؛ فإنه رذل لا خير فيه ولا نقية. ودخول رجل متستر في منزل المرء، دليل سوء لا يحتاج إلى غيره. ودخول المرأة في منزل رجل على سبيل التستر مثل ذلك أيضاً. وطلب دليل أكثر من هذين سخف. وواجب أن يجتنب مثل هذه المرأة وفراقها على كل حال، وممسكها لا يبعد عن الدياثة.
الناس في أخلاقهم على سبع مراتب، فطائفة تمدح في الوجه وتذم في المغيب، وهذه صفة أهل النفاق من العيابين، وهذا خلق فاش في الناس غالب عليهم، وطائفة تذم في المشهد والمغيب، وهذه صفة أهل السلاطة والوقاحة من العيابين، وطائفة تمدح في الوجه والمغيب، وهذه صفة أهل الملق والطمع، وطائفة تذم في المشهد وتمدح في المغيب، وهذه صفة أهل السخف والنواكة. وأما أهل الفضل فيمسكون عن المدح والذم في المشاهدة، ويثنون بالخير في المغيب، أو يمسكون عن الذم. وأما العيابون البرآء من النفاق والقحة، فيمسكون في المشهد، ويذمون في المغيب، وأما أهل السلامة فيمسكون عن المدح وعن الذم في المشهد والمغيب ومن كل من أهل هذه الصفات قد شاهدنا وبلونا.
إذا نصحت في الخلاء وبكلام لين، ولا تسند سب من تحدثه إلى غيرك فتكون نماماً، فإن خشنت كلامك في النصيحة فذلك إغراء وتنفير، وقد قال الله تعالى " فقولا له قولاً ليناً " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تنفروا " وإن نصحت بشرط القبول منك فأنت ظالم، ولعلك مخطئ في وجه نصحك، فتكون مطالباً بقبول خطئك وبترك الصواب.
لكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف لي عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني، ما انبعثت لتلك التواليف.
لا تصاهر إلى صديق ولا تبايعه، فما رأينا هذين العملين إلا سبباً للقطيعة، وإن ظن أهل الجهل أن فيهما تأكيداً للصلة فليس كذلك، لأن هذين العقدين داعيان كل واحد إلى طلب حظ نفسه. والمؤثرون على أنفسهم قليل جداً، فإذا اجتمع طلب كل امريء حظ نفسه، وقعت المنازعة، ومع وقوعها فساد المروءة، وأسلم المصاهرة مغبة مصاهرة الأهلين بعضهم بعضاً، لأن القرابة تقتضي العدل وإن كرهوه، لأنهم مضمرون إلى ما لا إنفكاك لهم منه من الإجتماع في النسب الذي توجب الطبيعة لكل أحد الذب عنه، والحماية له.
--
mohamed chehata
http://groups.yahoo.com/group/awlea2allh/
--~--~---------~--~----~------------~-------~--~----~
لقد تلقيت هذه الرسالة لأنك مشترك في مجموعات جوجل "بيانات و أخبار دورية من النور" مجموعة.
لتقوم بارسال رسائل لهذه المجموعة ، قم بارسال بريد الكترونى الى bayanatalnor@googlegroups.com
-~----------~----~----~----~------~----~------~--~---
No comments:
Post a Comment