هذه "الدنيا اللغز"
بين حيرة السلف وعجز الخلف!
تظل الدنيا لغزا في حياة المسلم هذا الزمان، حير السلف، وأعجز الخلف!
ذلك أنه إلى الآن ومنذ حوالي قرن من الزمان، منذ استيقظ عالم الإسلام على عصر ما بعد النهضة يطرق الأبواب ويخطف الأبصار، فإن حيرة المسلمين في شأن هذه الدنيا الجديدة لم تتوقف. حتى كادت تصبح لغزا صعب الحال، ومحاطا بالمخاوف والشكوك، وبدا طريقها مسكونا بالأشباح والعفاريت، الذاهب إليه مفقود، والناجي منه مولود!
وفي مواجهة هذه الدنيا للغز، تراوحت المواقف وردود الأفعال، بين الاعتزال والخصام والتمرد!
أعرف أسرا كثيرة احتسبت الله في أبناء لها اختفوا منذ سنوات. هاجروا الى الجبال والشعاب والمغارات وانقطعت أخبارهم، أو هجروهم بعدما انقلبت حياتهم وهم في بيوتهم. فلم يعودوا يكلمون أحدا، ولا يعرفون أحدا. أغلقوا على أنفسهم الطريق بين المسجد والبيت. فلا يقرأون صحيفة، ولا يستمعون الى إذاعة، ويستعيذون بالله من التلفزيون، ويلعنون الذاهب الى السينما، ناهيك عن المسرح!
وأعرف شيوخا ـ أكثر تقدما! ـ يجيزون الاستماع الى نشرت الأخبار فقط في الإذاعة. ويضبطون أنفسهم وأناملهم بحيث يديرون مفتاح المذياع في اللحظة التي تنتهي فيها المقدمة الموسيقية، تجنبا للاستماع الى " أصوات الشيطان" في اللحن المميز للنشرة الإخبارية!
وهؤلاء وهؤلاء، حصروا أنفسهم في مسائل اللحى وأغطية الرؤوس، والثياب القصيرة والضيقة، والمستور والمكشوف، والمسواك والسجائر، والطيب والحناء.. وما إلى ذلك.
الدنيا عندهم أسود وأبيض، أطهار أشرار، دار إسلام ودار كفر، ثم.. هم حزب الله، وغيرهم حزب الشيطان!
ولو أن الأمر بقي مقصورا على مواقف ومخارج اختارها الأفراد لأنفسهم، لما كانت هناك مشكلة كبيرة. إذ الاختيار مسؤولية كل فرد في النهاية، له غنمه وعليه غرمه.
ولكن المسألة أصبحت أكثر تعقيدا وأشد خطرا. فهذه التيارات، صارت تصنف الآن باعتبارها من مظاهر "المد"، والصحوة الإسلامية، وأيا كانت هذه التسمية، فإن الخطير في الأمر أن هذه الشواهد في مجموعها تحمل في طياتها بذور دورة " الانسحاب الثاني" لمسلمي العصر الحديث، في مواجهة الحضارة الغربية، بفكرها ومستحدثاتها.
لقد كان الانسحاب الأول مقترنا بتلك المرحلة التي استيقظ فيها عالم المسلمين ـ بعد سبات دام خمسة قرون ـ على طلائع الحضارة الغربية، تدق قلاعهم الناعسة بعنف بلغ ذروته طوال القرن التاسع عشر.
وكانت الصدمة التي زلزلت هذا المجتمع الراقد رقدة أهل الكهف، الذاهل عما يرى، الحائر فيما يرى.
في ذلك الوقت، عاش المسلمون حالة من الحيرة والخوف والقلق البالغ.
في هذه الفترة ـ يقول عباس العقاد في كتابه " الإسلام في القرن العشرين": كان الإسلام كما يفهمه الجهلاء، مزيجا من الخرافة والشعوذة والطلاسم والأوهام، ومن الوثنية وعبادة الموتى.. كان بعض المتعالين من أدعياء المعرفة يحكم بكفر القائلين بدوران الكرة الأرضية، ولا يتردد في تكفير من يسميها كرة!
( نشرت مجلة المنار في العام 1909 سؤالا موجها الى صاحبها الشيخ محمد رشيد رضا هذا نصه: نسألكم في الخبر المبلغ بواسطة البرق، هل يعتد به عندنا في الشرع، كالصلاة على الغائب، الملبغ عن خبره بواسطة البرق، وما يترتب على ذلك من الأمور الشرعية، كالهلال في الصوم، أو الإفطار، وهل يجوز الأخذ بذلك؟).
وعن تلك المرحلة، كتب الإمام محمد عبده مقالا بعنوان: الإسلام اليوم والاحتجاج بالمسلمين على الإسلام ( الجزء الثالث من الأعمال الكاملة): هل غاب من الأذهان ما كان ينشر في الجرائد من نحو ثلاثين سنة ( كان ذلك في آخر القرن الماضي) بأقلام بعض علماء الجامع الأزهر من المقالات الطويلة الأذيال، الواسعة الأردان، في استهجان ادخال علم تقويم البلدان ( الجغرافيا) ضمن العلوم التي يتلقاها طلبة الأزهر.. على اعتبار أن تدريس الجغرافيا يستهدف " الغض عن علوم الدين".
وفي تساؤل آخر كتب الأستاذ الإمام: الا يتخيل المتأمل أنه يسمع من جوف المستقبل صخبا ولجبا، وضوضاء وجلبة وهبعات مضطربة، إذا قيل إنه ينبغي لطلبة الأزهر أن يدرسوا طرفا من مبادئ الطبيعة، أو يحصلوا جملة من التاريخ الطبيعي؟. ألا تقوم قيامة المتقين؟ ألا يصيحون أجمعين، اكتعين ابتعين: هذا عدوان على الدين؟ هذا توهين لعقدة المتين. هذا تغرير بأهله المساكين؟
ثم يروي محمد عبده قصة طالب علم من البلاد العثمانية"، أراد الالتحاق بأحد أروقة الأزهر، ووقع الشك، هل بلده مما لأهله استحقاق في ذلك الرواق حسب نص الواقف. فقال قائل لشيخ الرواق: إن كتب تقويم البلدان تشهد بان البلد داخل في شرط الوقف. فرد الشيخ: إني لا أقتنع بما في تلك الكتب، وإنما الذي يصح ان آخذ به هو ان يكون فقيه ـ ممن مات ـ قال إن هذا البلد من قطر كذا، وهو الذي وقف الواقف على أهله؟
أي ان خيال الرجل وعقله رفضا من حيث المبدأ أن تحدد كتب الجغرافيا مواقع البلد، ولم يتصور أن يكون تحديد البلدان خارجا عن سلطة الفقهاء!
وبحيرة من استيقظ على عالم جديد وغريب، توجه أشهر علماء الزيتونة بتونس في ذلك الوقت الشيخ محمد بيرم، إلى الشيخ محمد الأنباني شيخ الأزهر، بسؤال في عام 1887، وهذا نصه:" ما قولكم ـ رضي الله عنكم ـ هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية، مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء، وغيرها من سائر المعارف، لا سيما ما ينبني عليه من زيادة القوة في الأمة، بما تجاري به الأمم المعاصرة لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد؟".
وفي دراسة نشرتها مجلة العربي تحت عنوان العرب والغرب، صورة مفصلة للجدل الذي أثير في أواخر القرن الماضي بين علماء الأزهر حول ارتداء البنطلون، وحذاء الفرنجة الأسود، الذي قال بعضهم انه مخالف للسنة، التي لم تجز للمسلم أن يتخذ من النعال سوى الحمراء والصفراء. وما رواه الشيخ حافظ وهبة في كتابه جزيرة العرب في القرن العشرين، من أن أول ساعة دقاقة وردت الى نجد في أواخر القرن الماضي حطمت لاعتبارها من عمل الشيطان. وكيف اعتبرت آلات البرق ناشئة عن استخدام الجن. ثم كيف احتاج استخدام الحاكي الى فتوى، بل كيف رفض المسلمون فكرة طبع المصاحف "للاعتقاد بافتقار مواد الطباعة الى الطهارة، وعدم جواز ضغط آيات الله بالآلات الحديدية"!
وعندما ذهب الى فرنسا في القرن الماضي كل من الشيخ رفاعة الطهطاوي من مصر وخير الدين التونسي من تونس، كانا مثل كائنات غريبة هبطت فوق كوكب آخر، وعكست كتابات كل منهم شعور الذاهل والمصدوم والمأخوذ،حتى قال الطهطاوي في " تخليص الأبريز في تلخيص باريز": " سائر هذه العلوم المعروفة معرفة تامة لهؤلاء الافرنج، مجهولة كلية عندنا". وإن "علماء الإسلام إنما يعرفون شريعتهم ولسانهم فحسب".
بهذه الانطباعات عاش عالم المسلمين صدمة استيقاظ من السبات الطويل:
المسلمون الذين كانت كلمة اقرأ هي أول ما نزل على النبي من قرآنهم، اختاروا في نهاية الأمر: هل يطبعون المصحف أم لا؟
والمسلمون الذين أفرزت حضارتهم انجازا مثل الاسطرلاب والساعة الدقاقة التي أهداها هارون الرشيد الى الامبراطور شارلمان، أصيب أحفادهم بالذعر عندما رأوا الساعة الدقاقة في القرن التاسع عشر، لأنها من عمل الشيطان!
والمسلمون الذين أعطوا العالم النظام العشري في العد، ولا تزال الدنيا تستخدمه الى الآن، والجداول التي نعرفها بإسم اللوغارتمية ـ وهي الخوارزمية نسبة الى أبي عبدالله الخوارزمي ـ والذين أسسوا علم المثلثات على أيدي حمشيد بن مسعود وابن سيناء، والذين أحدثوا قفزات ضخمة في معرفة الإنسان، من خلال ما كتب ابن الهيثم في الفيزياء والبصريات، والرازي في الصيدلة، وابن سينا في الطب وجابر بن حيان في الكيمياء، والاصطخري والادريسي في جغرافية الأرض..
هؤلاء المسلمون خلفوا أجيالا احتاجت الى فتاوى شرعية لتدريس الحساب والطبيعيات والجغرافيا! مفارقات مدهشة، يكاد لا يصدقها عقل، ولكنها الحقيقة المحزنة والمفجعة!
ويكاد يمضي الآن قرنان على بداية هذه الصدمة، شهدت ساحة الفكر الاسلامي خلالها مد وجزر، وظهرت دعوات وخبت دعوات.
نمت أفكار الإمام محمد بن عبدالوهاب في شمال الجزيرة العربية والشوكاني اليمني في جنوبها، ثم ظهر السنوسي في ليبيا، والمهدي في السودان، وظهر جمال الدين الأفغاني كعاصفة هزت عالم المسلمين. وكان محمد عبده ورشيد رضا وعبدالحميد الزهراوي في مصر والشام، وعبدالحميد بن باديس وبعده مالك بن نبي في الجزائر،
ثم حسن البنا في مصر، وأبو الحسن الندوي وأبو الأعلى المودودي في الهند وباكستان وهو الذي رحل عن الدنيا، طاويا معه آخر صفحات من كتاب رواد الفكر الإسلامي في العصر الحديث.
لقد حاول هؤلاء، وغيرهم بكل تأكيد، ان يدفعوا مسيرة الإسلام والمسلمين الى مواقع أكثر تقدما، وأن يقيموا ذلك الجسر بين دين المسلم ودنياه، وحققوا الكثير في مجال اثراء العمل الاسلامي بالفكر والممارسة، لكن الممارسة لم تكتمل لسبب أو آخر.
الأمر الذي لم يتح في النهاية فرصة إيجاد تيار قوي وقادر على التأثير في الاتجاه الصحيح، وبقيت مخاوف المسلم مما حوله مستمرة، وظلت صورة الدنيا اللغز مستقرة في الأذهان.
وزاد الأمر تعقيدا أن متغيرات الدنيا خلال هذين القرنين حققت قفزات مذهلة في كل ميدان. وطرحت على جماهير المسلمين وعلمائهم أسئلة لم تتوفر لها الإجابات المناسبة في الوقت المناسب، حتى بعدت الشقة أكثر وأكثر بين مواقع المسلمين وتلك الدنيا الجديدة.
والمدهش في الأمر ان رقعة حيرة المسلم في هذا الزمان لم تعد تمتد فقط الى متغيرات العقود الأخيرة، في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولكن تلك الرقعة اتسعت حتى باتت تشمل الكثير من الأمور التي كانت مثارة منذ قرنين منذ الزمان.
إذ لا يزال بيننا من يشكك في كروية الأرض، ويرفض فكرة نزول الانسان فوق سطح القمر، ويعتبر الاذاعة والتلفزيون من عمل الشياطين، ولا يزال بيننا من يتحدث عن شرعية لبس البنطلون، ويرفض التصوير، ويحرم الرسم، ويصر على أن رؤية هلال رمضان لا بد وأن تتم بالعين المجردة.
ولا يزال بيننا من يكفر كل ما لم يرد في كتب الفقهاء ويعتبر الفقهاء ـ بمعنى دارسي العلوم الشرعية فقط ـ هم المرجع الأخير في الكثير من قضايا السياسة والاقتصاد والطب والقانون والفلك!
وقد كان ظهور هذا الجيل، الرافض للدنيا، بين منسحب ومعتزل ومتمرد، شاهدا آخر على أن جهد أولئك الرواد المسلمين خلال القرنين الأخيرين لم يفلح في توفير مفاتيح الحل لمشكلة "الدنيا اللغز". بل ان هناك من استخدم اضافات بعض هؤلاء الرواد "كمغاليق"، زادت المشكلة تعقيدا، وباعدت الأمل في حلها. ولنا في المدارس الحديثة التي تأسست على مبادئ الفقه الحنبلي في الجزيرة العربية نموذج على ذلك.
وهكذا أصبحت عناصر الصورة أمامنا على الوجه التالي:
· تيارات إسلامية لم يتح لها أن تواصل مسيرتها، لتنضج بقدر يمكنها من إقامة جسر يمكن المسلم من أن يتوافق مع عصره بأمان وفي طاعة الله.
· علماء إسلاميون لم يتمكنوا من أن يقدموا إجابات تحل للمسلم مشكلته، ولجأ أكثرهم الى سلاح التحريم، أخذا بالأحوط وإيثارا للسلامة.
· عصر تتسارع متغيراته يوما بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة.
· شباب مسلم نبت في تلك الظروف، فلم يملك سلاحا يشق به طريقه، إذ كانت الأسلحة التي بين يديه عاجزة وغير فعالة. وكان المخرج المتاح أمامه هو هذا الانسحاب والاعتزال والتمرد.
* ولنا ان نقرر بأن هذا الواقع الماثل أمامنا، ليس نابعا هذه المرة من حيرة ومفاجأة، فقد مضى وقت كاف للمعايشة وإيجاد تلك الصيغة أو الجسر الذي يلحق المسلم بركب العصر، دون عنت أو شعور بالذنب. ولكن رد الفعل الذي نشهده لدى هؤلاء الشباب نبع في حقيقة الأمرمن إحساس بالعجز، وربما اليأس من حل هذه المشكلة.
· وهو منهج في التفكير له منطقه: أن تتحصن في موقعك، أو ترتد الى ما وراء خطوطك إذا ما عجزت عن الاقتحام والتقدم!
· وهذا ما ارتآه بعضنا، اعتزلوا الدنيا وارتدوا إلى ما وراء العصر حيث وجدوا هناك الحصانة والآمان وراحة الضمير، ووقفوا ينتظرون حدوث المعجزة، أن تلحق الدنيا بهم هم، أو تقوم الساعة فيستريحون ويريحون.
وهكذا صرنا على أبواب مرحلة الانسحاب الثاني، ولم يمض قرنان على مشهد الانسحاب الأول!
وحتى نكون منصفين، فينبغي أن نقرر بأن القضية ليست وليدة قرنين من الزمان، وإن الصدمة التي مني بها الإسلام لم تحدث فجأة وبغير مقدمات. وإنما يتراكم وراء هذا الشعور بالصدمة رصيد تراثي هائل، تكون منذ حدث ذلك الانفصال بين الدنيا والدين في واقع المسلمين وأعماقهم وفكرهم.
منذ انفصل القرآن عن السلطان وقعت الواقعة في عالم الإسلام!
لم تكن هناك مشكلة عندما كان السلطان موظفا لصالح القرآن بوعي وبصيرة، ولكن التحول حدث عندما انقلبت الآية؛ وأصبح القرآن موظفا لصالح السلطان!
كان الأمر محسوما عندما كان هناك إله واحد يعبده الناس وقبلة واحدة يتجهون إليها صباح ومساء، ولكن الموقف اختلف تماما منذ تعددت الآلهة وتجددت الأوثان في الأرض، وأصبح لكل قبلته وأحيانا كانت قبلة النهار غير قبلة الليل!
وأستاذنا مالك بن نبي يعتبر معركة "صفين" في العام الثامن والثلاثين بعد الهجرة بداية هذه المرحلة، التي أدت الى انفصال القرآن عن السلطان، أو "انفصال الضمير عن العلم"، على حد قوله.
منذ خرج علي ابن أبي طالب دفاعا عن القرآن. وخرج معاوية بن أبي سفيان طمعا في السلطان، ثم كان انتصار معاوية انتصارا للسلطان. منذ ذلك الحين، حدث الانقلاب الأول في التاريخ الإسلامي. وألقيت البذرة الأولى التي أثمرت فيما بعد ظاهرة إلغاء الدور الحقيقي للقرآن. وفقد فاعليته كمحرك لعالم الإسلام، وتقلصت تماما وظيفته الاجتماعية، حتى انتهى به الأمر الى أن أصبح يؤدي وظيفة جمالية فقط.
انتزع القرآن من موقع القيادة، واحتجز في المتحف، هذا ما جرى بالضبط.
وعندما انفرد السلطان بالكلمة الأخيرة ـ في غيبة الشورى التي دعا إليها القرآن ـ انفرط عقد الإسلام الفريد!
بطبيعة الحال لا يمكن أن نلغي تماما دور "الحركات التصحيحية" التي حدثت بعد صفين، والتي تمثلت أساسا في الخط الذي انتهجه الخليفة عمر بن عبدالعزيز، ولكننا إذا تابعنا المسار الرئيسي للأحداث، فسوف نلاحظ بغير شك ان محاولات عمر بن عبدالعزيز وغيره إنما كانت ومضات سريعة، أوقفت التيار إلى حين، لكنها لم تعدل مساره. إذ ظل الانفصال قائما في عالم الإسلام بين القرآن والسلطان، وظلت الهوة تتسع بينهما حينا بعد حين.
وقد كان هذا الانقلاب أعمق وأخطر مما نتصور، لأن حدود التغيير الذي أحدثته امتدت الى رقعة أوسع بكثير مما رصده المؤرخون. ولن نبالغ كثيرا إذا قلنا إن تأثير هذا الانقلاب ألقى بظله على كل ما أعقبه من عهود، إلى عصرنا هذا الراهن..بل إلى مشكلتنا التي نحن بصددها الآن، أعني مشكلة "الدنيا اللغز" في حياة المسلم!
ذلك أن الانقلاب السياسي، افرز انقلابا فكريا على نفس المستوى!
فانفصال القرآن عن السلطان، أقام بمضي الوقت حاجزا ما بين العقيدة والشريعة، وانتصار السلطان على القرآن، ادى تلقائيا تزايد الاهتمام بفقه العبادات. وتعطيل نمو فقه المعاملات.
وتلك نتيجة منطقية، إذ أن غيبة التطبيق الأمين للشريعة، لا بد أن ترتب إحدى نتيجتين: إما أن يتأخر نمو رصيدها الفكري، أو أن ينمو هذا الرصيد نموا غير طبيعي، في غير الاتجاه الصحيح.
بتعبير آخر، فإن انتصار السلطان على القرآن، إذا كان قد أسفر في النهاية عن تحديد إقامة القرآن في المتاحف والواجهات الزجاجية المغلقة، فإنه أدى في الوقت ذاته الى تحديد إقامة الإسلام في المساجد!
وقد هيأ ذلك التطور الفرصة لظهور مدارس تفسير النصوص وحفظ القرآن وحفظ المتون، التي لا ترى جوهر الإسلام وحقائقه الأساسية، ولكنها تقف جامدة أمام الكلمات والحروف، عاجزة عن النفاد الى ما هو أبعد من ذلك. صار الإسلام نصا وليس فكرة ورسالة، وغلبت مباحث اللغة على مقاصد الشريعة، حتى كتب محيي الدين ابن عربي ـ مثلا ـ رسالة عنوانها " كتاب الميم والواو والنون" باعتبارها أسنى الحروف وجودا، وأعظمها شهودا!، وحتى إذا كتب أبو اسحاق الشاطبي (الغرناطي) كتابه الأشهر "الموافقات في أصول الشريعة" ـ في أواخر القرن الثامن الهجري ـ عد الكتاب، ولا يزال، فتحا جديدا في تاريخ التفكير الإسلامي.
وكان طبيعيا بالتالي في هذا المناخ أن ينصرف كثير من علماء المسلمين الى الاشتغال بفلسفة الكلام، وعلم التوحيد، وفقه العبادات، وفقه اللغة، أو أي شيء آخر لا علاقة مباشرة له بحياة الناس أو واقعهم المتجدد.
وإذا كان البعض يرى أن اندفاع علماء المسلمين للاشتغال بفلسفة الكلام جاء نتيجة تأثر الفكر الإسلامي بمرحلة النقل عن الفلسفة اليونانية في العصر العباسي، فإن هذا التفسير قد يصح باعتباره عاملا مساعدا، ولكنه ليس العامل الأساسي في هذا التوجه. ذلك انه ما لم يكن المناخ العام مهيئا للانخراط في هذا المسار، لما احتلت فلسفة الكلام تلك المكانة في التاريخ الفكري الإسلامي. لقد كانت التربة معدة فعلا لمثل هذا الغرس ولغيره، وبمجرد ان ألقيت بذوره، فإنها نمت وترعرعت، وأثمرت على الفور.
وكان طبيعيا أن يدور محور القضايا المثارة، والمعارك الفكرية الكبرى، حول القرآن وهل هو أزلي أم حادث، وحول التناسخ والحلول ووحدة الوجود، وحول صفات الله وهل هي حقيقية أم مجاز. ثم الإنسان هل هو مخير أم مسير ( الجبر والاختيار)، والقرآن ظاهره وباطنه، إلى آخر قائمة ذلك الجدل الطويل الذي استغرق وقت علماء المسلمين وجهدهم.
وكان طبيعيا أن تنمو التيارات الداعية الى الدروشة والتصوف، والزهد والاعتزال..
وكان طبيعيا أن تجد الخوارق والمعجزات وكرامات الأولياء مكانا في الفكر الإسلامي، حتى تحدثنا عن الرسالة القشيرية ـ مثلا ـ عن الذين يطيرون في الهواء من المكشوف عنهم الحجاب، والذين يظهرون للجائعين خبزا بغير حاجة الى طحن دقيق!
وكان طبيعيا أن تصبح المزارات والأضرحة من المعالم الأساسية لمجتمع المسلمين، بل قبلة جديدة يتوجهون إليها بالرجاء والتوسل، وتنمو معها طبقات الدجالين المشعوذين وحملة مفاتيح السماء.
وكان طبيعيا أن تموت بمضي الوقت روح البحث والابتكار حتى لدى بعض أجيال الفقهاء، وأن تتحول المعرفة الى حفظ ونقل وتقليد.
حتى جاءت أزمنة لم يعد يحتج فيها الفقهاء لا بقول الله ولا برسوله، ولكن بما ردده السلف من أصحاب المذهب. وسجلت كتب التراث ان واحدا من شيوخ الحنفية المتأخرين ـ أبو الحسن الكرخي ـ قال في هذا الصدد: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ!
وهي مفارقة لا تخلو من دلالة، أن نجد كتاب الله وقد بدأت أول آياته بكلمة " إقرأ"، بينما نجد أكثر كتب الفقه قد اتفقت على أن تبدأ فصولها ببحث الطهارة والنجاسة!
أي ان كتاب الله أطل على المسلمين أول ما أطل من باب المعرفة الشاملة، بينما جاء فقه المسلمين ليطل على الناس من باب الوضوء والغسل!
إن تلك المسافة الشاسعة بين نقطة البدء في القرآن ونقطة الابتداء في كتب الفقه، بين الاستهلال هنا والاستهلال هناك، بين المنهج هنا والمنهج هناك، هي تعبير ناطق عن حجم المسافة بين فهم الإسلام كما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام، والإسلام الذي تشكل بعد العصر الرشدي. بين مرحلة انتصار القرآن ومرحلة انتصار السلطان!
وأكرر هنا أن المسار الرئيسي للفقه والفقهاء لم يمنع من ظهور نماذج فذة في تاريخ الفكر الاسلامي، واننا لا زلنا نستضيء إلى الآن بجهد هؤلاء العلماء الأفذاذ، إلا أنهم ظلوا بمثابة ومضات عابرة، تركت بصماتها على المسيرة بغير شك، لكنهم أيضا ـ لم يتمكنوا من تغيير مسارها، أو يحدثوا تحولات ذات قيمة فيها.
لقد اجتمعت ظروف عديدة على أن تبقي الإسلام محصورا أو محاصرا، في دائرة العبادات والشعائر وحدها. وكان مصلحة قوى الضغط، السلطان وبطانته، ان يصبح الإسلام نظاما "أخرويا"، إذا جاز التعبير، لا يمر بالدنيا، بل يقفز قفزا بالناس الى الجنة والنار!
وهو ما يسجله الامام محمد عبده بقوله انه من مقتضيات السياسة الخوف من خروج فكر واحد من حبس التقليد، فتنتشر عدواه، فيتنبه غافل آخر، ويتبعه ثالث. ثم ربما تسري العدوى من الدين الى غير الدين.. الى آخر ما قد يكون من حرية الفكر، التي يعوذون بالله منها! ( الأعمال الكاملة ـ جـ 3).
لقد كانت هذه الخلفية هي التي هيأت مجتمع المسلمين لتلقي شعور الصدمة عند أول احتكاك بالعالم الغربي، فيما بعد عصر النهضة. وهي ذاتها التي أسهمت في النمو غير الصحي للتفكير الإسلامي حتى اللحظة الراهنة. وأعني به ذلك التفكير الذي يقوم أساسا على التفرقة بين الدين والدنيا، وإقامة علاقة شك وارتياب بين المسلم ودنياه.
فنحن أمام تراث فكري وبناء نفسي "أخروي" بالدرجة الأولى، غرست فيه منذ انفصال القرآن عن السلطان بذرة تقليل شأن الدنيا في اهتمامات وتوجهات المسلم ـ وتحقيرها أحيانا ـ بحجة التطلع الى الآخرة والإعراض عن مصادر الشر والغواية.
وكانت نتيجة هذا الغرس أننا عرفنا ـ على المستوى الفردي ـ نموذج المسلم "العابد"، بالمعنى التقليدي للعبادة، لكننا افتقدنا في الوقت ذاته صورة المسلم "العامل" أو الفاعل.
لقد أصبحت طريق المسلم الى الاخرة سالكة، في أحسن الأحوال، لكن طريقه الى الدنيا ظلت بحاجة الى مغامرة الاقتحام والاكتشاف.
وإزاء هذه الحقيقة، فقد ظل نصيب المسلم من الدنيا، الذي نبهه اليه القرآن الكريم، مهدورا ومهضوما، إذا ما أراد أن يحصل عليه من باب الاسلام وتحت مظلته. وبات من الضروري ان تقام من جديد علاقة صحية بين المسلم ودنياه، لا تحل اللغز بالضرورة، ولكنها على الأقل تضع إطارا معقولا لاحتمالات حله.
كيف نزيل ذلك الحاجز النفسي ـ بتعبير المرحلة ـ بين المسلم ودنياه؟
تلك قضية أخرى!
من كتاب
القرآن و السلطان
فهمى هويدى
--
mohamed chehata
http://groups.yahoo.com/group/awlea2allh/
--~--~---------~--~----~------------~-------~--~----~
لقد تلقيت هذه الرسالة لأنك مشترك في مجموعات جوجل "بيانات و أخبار دورية من النور" مجموعة.
لتقوم بارسال رسائل لهذه المجموعة ، قم بارسال بريد الكترونى الى bayanatalnor@googlegroups.com
-~----------~----~----~----~------~----~------~--~---
No comments:
Post a Comment