ينبهر كثير من المسلمين برؤية الانتخابات الإيرانية لرئيس الجمهورية، ويعتبرونها صورة حضارية لاختيار زعيم يرضى عنه الشعب ويحقق آماله، خاصة في ظل الأوضاع المتردية في معظم بلاد العالم العربي؛ حيث يسيطر على الحكم فيه مجموعة من الرؤساء والملوك والسلاطين أتوا جميعًا بغير إرادة من الشعب، وحتى لو شهدت البلاد العربية انتخابات فإنها تكون انتخابات مزوَّرة، وهذا يجعل المسلمين يلهثون وراء أيّ تجربة بصرف النظر عن كونها غربية أو شيعية أو غير ذلك. ولكن هل تعتبر الانتخابات الإيرانية فعلاً نموذجًا يُحتذى؟ وهل الرئيس الذي يختاره الشعب يملك من الصلاحيات ما يحقق به آمال الذين انتخبوه؟ وهل هناك فرصة لإصلاح الفساد إن حدث؟ وهل النظام الإيراني يمتلئ بالحيوية كما يحلو لكثيرٍ من المنبهرين بالشيعة أن يقولوا؟! إننا لا بد أن نعود للأصول حتى نفهم من يحكم إيران في الحقيقة.. وأنا أنصح القراء بقراءة مقالاتي السابقة في هذا الموضوع؛ لأنها ستعطي رؤية أوضح لما سأذكره في هذا المقال، وهذه المقالات كانت بعنوان "أصول الشيعة"، و"سيطرة الشيعة"، و"خطر الشيعة"، و"موقفنا من الشيعة".
كيف حدث هذا؟! وما أصل القصة؟! لقد جاء الخوميني إلى حكم إيران وفقًا لنظرية استدعاها من التاريخ الشيعي اسمها نظرية "ولاية الفقيه"، والأصل في الفكر الشيعي أن الولاية لا بد أن تكون للإمام المعصوم، وهم يعتقدون في عصمة الإمام علي بن أبي طالب t، ثم عصمة أولاده الحسن ثم الحسين، ثم عصمة أبناء الحسين المتسلسلين، الذين كوَّنوا عندهم ما يُسمى بالأئمة الاثني عشر، ولكن حدث أن الإمام العسكري - وهو الإمام الحادي عشر عند الشيعة - مات سنة 260هـ دون أن يسمِّي إمامًا معصومًا خلفه، فانقسم الشيعة إلى طوائف كثيرة لحل هذه المعضلة، وكانت من هذه الطوائف طائفة الاثني عشرية التي ادعت أن الإمام العسكري أوصى إلى ابنه الصغير محمد الذي لم يبلغ الخامسة من عمره، غير أن هذا الإمام الثاني عشر دخل في أحد السراديب واختفى، ويعتقد الشيعة الاثنا عشرية (في إيران ولبنان) أنه ما زال موجودًا في داخل السرداب، وأنه سيظهر في يوم من الأيام ليحكم الدنيا، وهو عندهم المهدي المنتظر، وفي العقيدة الشيعية أنه لا يجوز تولي الحكم وقيادة الدولة وإقامة أحكام الدين والجهاد والجماعة والحدود وكل شيء إلا في وجود الإمام المعصوم، ومِن ثَمَّ فكل شيء معطَّل إلى أن يظهر هذا الإمام الوهمي.
وعلى هذا فإذا أخذ الإيرانيون بهذه النظرية فإنه لا يجوز أصلاً الاعتراض على حكم الفقيه الذي يتولى قيادة البلاد، والذي يُعرف عندهم الآن بالفقيه الأكبر، أو بمرشد الثورة، أو بالقائد، وكلها مترادفات للشخصية الأولى والأخيرة في النظام الإيراني الجديد، وهذا خطر جدًّا، بل هو أخطر من الأوضاع في الأنظمة العربية الفاسدة؛ لأن الحكام العرب الدكتاتوريين لا يقولون أنهم يحكمون باسم الله U، ولا يدَّعون الإلهام من الله، ولا يدعون العصمة، ولا تعتبر شعوبهم أن طاعتهم أمرٌ تمليه عليهم الشريعة، بل الكثير من الشعوب ترى أن مقاومة دكتاتوريتهم فضيلة؛ لأنها مقاومة للظلم والتسلُّط، بينما يُعتبر ذلك في إيران جريمة في حق الله قبل أن تكون جريمة في حق النظام أو القائد. لقد صمم الخوميني الدستور الإيراني الجديد بالشكل الذي يحفظ هذه الدكتاتورية العنيفة له، ولمن جاء من بعده على المنهج الاثني عشري المنحرف، فجعل من بنود الدستور أن مرشد الثورة يظل في هذا المنصب مدى الحياة! ثم كوَّن ما يُسمى بمجلس الخبراء، وهذا المجلس يختاره الشعب بالانتخاب، ولكن لا بد أن يكون هذا المرشح لمجلس الخبراء من الفقهاء، ولا بد أن يكون من الاثني عشريين، ولا بد أن يكون مؤمنًا بنظرية ولاية الفقيه. وهذا المجلس هو الذي يختار بعد ذلك الولي الفقيه الذي يخلف الخوميني بعد موته، ليظل وليًّا فقيهًا حاكمًا طيلة حياته بعد ذلك، وقد اختار هذا المجلس "آية الله علي خامنئي" ليكون مرشدًا للثورة، وهو في هذا المنصب من سنة 1989م إلى الآن!
إنها سيطرة لا يحلم بها أي دكتاتور عربي، وليس هذا فقط، بل إن كل ما سبق وغيره يتم بتفويض من الإمام الغائب المهدي، وإذا حدث وعصى أحد أفراد الشعب أوامر هذا المرشد فإن هذه خطيئة تصل إلى الشرك بالله؛ حيث إنه يعترض على معصوم، ويستندون في ذلك إلى مقولة منسوبة زورًا إلى الإمام جعفر الصادق يقول فيها: "...فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه، فإنما استخفَّ بحكم الله، وعلينا رَدَّ، والرادُّ علينا رادٌّ على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله"[2]. ولكن الخوميني أراد أن يجمِّل الصورة، فلا يجعل الأمر في صورة دكتاتورية قاهرة، فجعل هناك منصبًا يُسمى "رئيس الجمهورية"، مع أن الرئيس الفعلي للبلاد هو القائد أو مرشد الثورة، وجعل رئيس الجمهورية هذا بالانتخاب العلني من أفراد الشعب، حتى يفرِّغ كل الشحنات في داخل الشعب فيشعر أنه هو الذي اختار، وهو الذي وجَّه مسيرة الأمة، ولكن وقفة تأمل مع رئيس الجمهورية الإيرانية..
لقد ابتكر الخوميني مجلسًا سماه "مجلس صيانة الدستور"، هو المكلَّف باختيار من يمكن أن يُرشَّح للرئاسة، وهذا المجلس مكوَّن من اثني عشر عضوًا، يعيِّن مرشد الثورة ستة منهم بشكل مباشر! أما الستة الآخرون فيرشحهم رئيس السلطة القضائية بعد ترشيح مجلس النواب، مع العلم أن رئيس السلطة القضائية نفسه يُعيَّن من قِبل مرشد الثورة، وهذا يعني أن أعضاء مجلس صيانة الدستور بكاملهم من الذين يختارهم مرشد الثورة أو يرضى عنهم، وهذا المجلس يقوم بقبول ترشيحات المتقدمين لشغل منصب رئيس الجمهورية، ومن ثَمَّ فهو لا يقبل من المتقدمين إلا من هو على علاقة قوية جدًّا وحميمة بمرشد الثورة!! فليس هناك أي فرصة لوجود معارض لمرشد الثورة، وما يسمَّى بالمحافظين أو الإصلاحيين ما هي إلا صورة وهمية لبعض الاختلافات الطفيفة في الإطار الذي يسمح به مرشد الثورة، ويكفي أن نعلم أنه في الانتخابات الأخيرة تقدم لمنصب الرئاسة 471 مرشحًا، لم يقبل مجلس
إنهم جميعًا من أبناء النظام، ومن المؤيدين بقوة لكل كلمة يقولها المرشد القائد.
لقد عزله الخوميني من منصبه وعيَّن رئيسًا آخر!! عزله بعد أن حصل على 75 % من أصوات الشعب، فأي قيمة إذن للانتخابات؟ ولماذا تنفق الأموال في الدعايات؟ ولماذا تعقد المناظرات في وسائل الإعلام؟ وعندما أجاز الرئيس علي خامنئي - الذي كان رئيسًا لإيران من سنة 1981 إلى سنة 1989م - قانونَ العمل بعد أن عارضه مجلس صيانة الدستور بتوجيه من الخوميني، وجَّه الخوميني رسالة شديدة اللهجة إلى الرئيس علي خامنئي، وذكَّره في هذه الرسالة أن ولاية الفقيه كولاية الرسول r؛ لأنه معيَّن من قِبل الإمام الغائب، ورضخ الرئيس علي خامنئي للأمر، مع أن علي خامنئي سيصبح بعد وفاة الخوميني هو المرشد للثورة، وتنتقل العصمة إليه بذلك، وعندها لن يُقبل أي تعقيب لحكمه! ثم إننا رأينا الإصلاحيين في منصب رئيس الجمهورية، فقد حكم محمد خاتمي من سنة 1997م إلى سنة 2005م، فهل رأينا جديدًا؟! وهل إيران تحت حكم الإصلاحيين تختلف عنها تحت حكم المحافظين؟ أم أن الأمر في النهاية في يد شخص واحد هو القائد المرشد؟! ثم إننا نقول أيضًا أن الإصلاحيين والمحافظين لا يمثلون أحزابًا منفصلة في إيران، وليست هناك مؤسسات تضمن توجُّه رئيس معين؛ فأحمدي نجاد لا يمثل إلا نفسه في الانتخابات، وكذلك مير حسين موسوي الإصلاحي، وليس الأمر كما هو في أمريكا مثلاً، عندما يمثل أوباما برنامج الديمقراطيين، في حين يمثل ماكين برنامج الجمهوريين.. إن الأمر أبسط من ذلك بكثير في إيران؛ لأنه مجرد تمثيلية لا وزن لها. وحتى عندما قامت الصراعات بين المرشحين في شوارع إيران، وتبادلوا الاتهامات في وسائل الإعلام، فإن القيادة الدينية سكتت عن ذلك، وكان هذا السكوت متعمدًا، وقد علَّق على ذلك الخاسر مير حسين موسوي بقوله: "كل السبل للحصول على الحقوق مغلقة، وإن الشعب الإيراني يواجه صمت رجال الدين المهمين"[3]. وأضاف أيضًا أن هذا الصمت أخطر من التزوير. لقد صمت رجال الدين ليظهر الصراع وكأن صراع على منصب مهم جدًّا، وليبرزوا الديمقراطية في البلاد، ووجود تيارين، وترجيح كفة على كفة بواسطة الشعب، بينما الأمر كله في النهاية لا يعدو أن يكون مسرحية سيقوم الشعب فيها باختيار الممثِّل الذي يؤدي ما يكتبه مؤلف السيناريو قائد الثورة! والمصيبة بعد كل ذلك أن هذا القائد المرشد لا يحكم بالقرآن والسُّنَّة، إنما يرسِّخ انحرافًا عقائديًّا خطيرًا، ويحكم بتفويض من الإمام الغائب الذي دخل السرداب، ويحرِّك الدولة بكاملها وفق الهوى الشخصي الذي لا يجوز الاعتراض عليه! وإذا كان الأمر كذلك فلماذا ننبهر بهذه الأوضاع المأساوية؟! ولماذا نرى بعض الكُتَّاب - وأحيانًا من الإسلاميين - يعتبرون إيران نموذجًا يجب أن يُحتذى؟! إننا ننبهر لعدة أسباب.. منها أننا لا نعرف كل هذه الحقائق في الدستور الإيراني، وفي نظام الحكم هناك، وفي علاقة المرشد برئيس الجمهورية، ومن ثَمَّ فنحن نحكم بعاطفتنا لا بعقلنا، ونميل مع أي إنسان رفع راية الإسلام، ولو كان محرِّفًا مبدلاً. ومنها أننا لا نعرف الإسلام الحقيقي الذي يسمح للمسلمين أن يعترضوا على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بل إنه كان يسمح بمناقشة رسول الله r في الأمور التي ليس فيها وحي. ومنها أننا نعاني في البلاد العربية من حكم دكتاتوري قهري، ومن تزوير فاضح في الانتخابات، ومن فساد كبير في كل القطاعات، ومن ثَم فنحن نبحث عن نموذج ناجح ولو بصورة ضئيلة، ونتغاضى عن كثير من السلبيات، ونغضُّ الطرف عنها، لنقول في النهاية: الحمد لله، هناك دولة إسلامية تطبِّق الشورى!! ومنها أننا لا نتابع المخاطر التي تتعرض لها العراق والبحرين والسعودية وسوريا ومصر ولبنان، بل والسُّنَّة في إيران نفسها من جرّاء تولي السلطة لمرشد يؤمن بمبدأ ولاية الفقيه، ويعتقد أن السنة في العالَم مفرطون في الدين، وإن الإمام الغائب قد فوَّضه لتصحيح أوضاع الدنيا لكي تستقبل الإمام المهدي عند عودته! ومنها أننا نعاني من ظلم أمريكا واليهود، ونفرح إذا تكلم في حقهما أحد، ولا نهتم بمتابعة الأحداث، ولا بقراءة التاريخ، لنعرف أن احتماليات هجوم إيران على إسرائيل لتحرير فلسطين تساوي صفرًا! إننا - أيها المسلمون - نحتاج أن نبني أمتنا على قواعد سليمة، وأسس صحيحة، ولا يكون هذا في منهج شرقي أو غربي، ولا في مبادئ شيعية أو خوارج، إنما في قرآن وسُنَّة، وعودة إلى الأصول، ودراسة لمنهج الرسول r في التغيير، وكذلك مناهج الصالحين في تاريخ أمتنا، وما أكثرهم! أما الانبهار بالمنحرفين فهذا ليس من شيم الصالحين، وأسأل الله U أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين. د. راغب السرجاني [1] الخوميني: الحكومة الإسلامية ص52. http://www.islammemo.cc/akhbar/Asia-we-Australia/2009/06/13/83473.html | |||||||||||||
--
مع تحيـــــ Ashraf Taha ـــــــاتي
--~--~---------~--~----~------------~-------~--~----~
لقد تلقيت هذه الرسالة لأنك مشترك في مجموعات جوجل "بيانات و أخبار دورية من النور" مجموعة.
لتقوم بارسال رسائل لهذه المجموعة ، قم بارسال بريد الكترونى الى bayanatalnor@googlegroups.com
-~----------~----~----~----~------~----~------~--~---
No comments:
Post a Comment