الزمن
و لكن ما هو الزمن ؟
هل هو دقات ساعة الجامعة .. و النتيجة المعلقة بالحائط و التقويم الفلكي بالفصول و الأيام ..
...
إننا ما زلنا نذكر كلمات المراقب و نحن نؤدي الامتحان في آخر كل سنة ..
باقي على الزمن نصف ساعة ..
نذكر الرجفة التي كنا نحس بها و نحن ننظر إلى ورقة الإجابة و على ورقة الأسئلة ..
و إلى الساعة في يد المراقب .. و إلى شفتيه و هما تنطقان : باقي على الزمـــــــــن نصف ســـــاعة ...
كأنه ينطق حكماً بالإعدام .. أو حكماً بالإفراج ..
كانت النصف ساعة عند بعضنا قصيرة جداً .. أقصر من نصف دقيقة .. لأن ورقة الإجابة ما زالت بيضاء أمامه ..
و لأنه مازال يبحث .. و يهرش في رأسه ..
و كانت عند بعضنا الآخر طويلة مملة .. أطول من نصف يوم .. لأنه قد انتهى من الإجابة ..
كانت الساعة في يد المراقب تشير إلى زمن واحد .. و لكن كل منا كان له زمن خاص به ..
كان معيار الدقائق عند كل منا يختلف عن الآخر .. و هذا هو مفتاح اللغز ...
إن الزمن ليس شيئاً منعزلاً عنا مثل الشجرة و المحبرة و الكتاب.. ليس زمبلكاً تحتويه ساعة اليد و لكنه شيء يلابسنا
لكل منا زمن خاص به
عواطفنا و اهتماماتنا هي الساعة الحقيقية التي تضبط الزمن و تطيله أو تقصره
أفراحنا تجعل ساعاتنا لحظات .. و آلامنا تجعل لحظاتنا طويلة مريرة ثقيلة مثل السنين و أطول ..
إحساسنا بالسرعة و البطء ليس مصدره ساعة الحائط و لكن مصدره الحقيقي الشعور في داخلنا ..
إن ساعة الحائط تقدم لنا زمناً مزيفاً .. و مثلها التقويم الفلكي الذي يقسم حياتنا إلى أيام و شهور وفصول ..
و التاريخ الذي يقسم أعمارنا إلى ماض و حاضر و مستقبل .. لأن حياتنا غير قابلة للقسمة ..
و لأن الزمن في داخلنا غير قابل للقسمة أيضاً ..
إن حياتنا لحظة طويلة مستمرة يصاحبها إحساس مستمر بالحضور ..
و نحن نتعرف على الماضي من خلال الحاضر .. فحينما نعيش في إحساس بالتذكر نسميه ماضياً ..
و حينما نعيش في إحساس بالتوقع نسميه مستقبلاً .. و لكن كل هذه الإحساسات هي حاضر ..
و الفواصل بين الماضي و الحاضر و المستقبل فواصل وهمية لأن اللحظات الثلاث تتداخل بعضها في بعض
كما يتداخل الليل و النهار عن الأفق
و الذي يقوم بتعيين اللحظة في الشعور هو الانتباه
الانتباه هو الذي يضع خطاً تحت بعض مشاعرنا و إحساساتنا فيخيل لنا أننا وقفنا لحظة و الحقيقة أنه لا وقوف أبداً ..
و إنما نحن نعيش في حالة تدفق داخلي مستمر أبداً و دائماً ..
و الزمن الخارجي .. زمن الساعات و المنبهات زمن كاذب خدّاع لأنه يساوي بين اللحظات ويجعلها مجرد أرقام على ميناء ..
الساعة واحدة .. الساعة اثنين .. الساعة ثلاثة .. مجرد حركة من العقرب .. و انتقال بضعة سنتيمترات على الميناء ..
إنه ليس زماناً و لكنه أوضاع مختلفة في المكان .. أما الزمن الحقيقي فهو في داخلنا ..
و هو اضطراب دائم لا تتساوى فيه لحظة بأخرى .. لحظة صغيرة .. و لحظة كبيرة .. و لحظة تافهة ..
و هو غير قابل للتكرار .. لأن كل لحظة تحتوي على الماضي كله و معه علاوة من الحاضر ..
و في كل لحظة تضاف علاوة جديدة من التجربة و الحياة فلا تعود الحياة قابلة لأي تكرار ..
و إنما هي تعلو على الدوام مثل نهر جارٍ يزداد في الماء بين لحظة و أخرى .. و لا يتشابه فيه الماء في لحظتين متتاليتين ..
إن العالم داخلنا يختلف كثيراً عن العالم خارجنا ..
إن العالم خارجنا متعدد منقسم إلى أجزاء منفصلة متجاورة في المكان .. يمكن أن نشاهد فيه وحدات متكررة ..
و العالم داخلنا شيء آخر بالمرة
إنه تدفق لا تتشابه فيه لحظة بأخرى و لا يتكرر فيه إحساس واحد مرتين ..
و لا تتجاور لحظاته و إنما تتابع .. و تتلاحق .. و تتداخل في وحدة غير قابلة للقسمة هي حياتنا ..
و بهذا يكون هناك زمانان .. زمن نراه من الخارج على هيئة شروق و غروب و عصر و ظهر ..
و ساعات و دقائق .. و زمن آخر نشعر به من الداخل على شكل تدفق يتصف بالدوام و الاستمرار و الاتصال ..
و نحن نرى الزمن الخارجي بالعقل و ندركه بالتحليل و القياس و الحساب و نعبر عنه بواسطة الأرقام ..
و ندرك الزمن الداخلي مباشرة و بدون واسطة .. على شكل مكاشفة داخلية لكياننا ..
لذلك نقول عن الزمن الداخلي أنه الزمن الحقيقي لأن الحقيقة تطالعنا فيه عارية بدون وساطة و بدون رموز ..
و هذا النوع من الإحساس يشبه إحساسنا بالحركة ..
حينما نحرك ذراعنا فنحس أننا نحركه إلى فوق بدون حاجة إلى أن نراه ..
لأننا نحس بهذه الحركة من الداخل مباشرة بدون وساطة الرؤية ..
بينما يحتاج الذي يشاهدنا من الخارج أن يرى حركات ذراعنا بعينه و يتبعها و يحللها بعقله
ليقول أننا نحرك ذراعنا إلى فوق و معرفتنا نحن أرقى من معرفته لأننا نعاين الحقيقة مباشرة
و بهذه المعرفة اكتشفنا الزمن .. زمننا الحقيقي
و لكننا لا نعيش حياتنا كلها في الزمن الحقيقي لأننا لا نعيش في نفوسنا كل الوقت ..
و إنما نعيش في مجتمع .. نخرج و نختلط بالناس و نتبادل المنفعة و نتعامل و نتكلم و نأخذ و نعطي ..
و لهذا لا نجد مفراً من الخضوع للزمن الآخر .. زمن الساعات .. فنتقيد بالمواعيد و نرتبط بالأمكنة ..
و نبحث عن الأشياء المشتركة بيننا لنتفاهم .. و في أثناء بحثنا عن الأشياء المشتركة تضيع منا الأشياء الأصلية ..
العرف و التقاليد و الأفكار الجاهزة تطمس الأشياء المبتكرة فينا و تطمس الذات العميقة التي تحتوي على سرنا و حقيقتنا ..
و نمضي في زحام الناس و قد لبسنا لهم نفساً مستعارة من التقاليد و العادات .. لنعجبهم
و تتكون عندنا بمضي الزمن ذات اجتماعية تعيش بأفكار جاهزة و عادات وراثية و رغبات عامة لا شخصية ..
و هذه الذات سطحية ثرثارة تقضي وقتها في التعازي و التهاني و المجاملات و المعايدات و السخافات
و تنفق حياتها في علاقات سطحية تشبه المواصلات المادية التي توصل من الباب إلى الباب و لا توصل من القلب إلى القلب
و هذه الذات التافهة هي غير الذات العميقة التي نغوص إليها في ساعات وحدتنا و نكتشف فيها أنفسنا و نتعرف على وجوهنا الحقيقية ..
إنها ذات جامدة مثل الجسد تحكمها الغرائز و الضرورات الاجتماعية ..
و هي تشبه المرحاض النفساني نفرز فيه كسلنا و ضيقنا و مللنا و نقتل فيه وقتنا بانشغالات رخيصة تافهة
مثل قزقزة اللب و لعب الطاولة .. و نحن نتأرجح في حياتنا بين هذه الذات السطحية و بين الذات العميقة ..
نهبط مرة و نعلو مرة .. نعيش في زمن الساعات لفترة طويلة من يومنا في وظائف و أعمال آلية روتينية ..
و نعيش في لحظات قليلة متألقة في داخلنا في زمننا الحقيقي الجياش فنهتز بالنشوة و نشرق بالسعادة
و نرتجف بالقلق و نمتلئ بالفضول و اللذة و نعرف نفوسنا على حقيقتها و بكارتها ..
و نحن نكتشف هذه النفوس البكر في مغامرات قليلة ..
نكتشفها لأول مرة في مغامرة الحب حينما نعثر على المرأة التي تهز وجودنا ..
و تخترقنا و تخترق عادتنا و تفكيرنا و حياتنا و تقلبها رأساً على عقب .. فتبدو كأنها حياة جديدة عجيبة ..
و نكتشفها لثاني مرة في مغامرة الفن .. في لحظة الإلهام التي ينفتح فيها شعورنا على إدراك جديد
و تصوير جديد للدنيا .. فنكتب أو نغني أو نرسم أو نقول شعراً
و نكتشفها لثالث مرة في مغامرة التأمل و في الشعور العميق بالتدين .. في لحظة الجلاء الفكري
التي نضع فيها على حقيقة جديدة فينا أو في الناس حولنا أو في الدنيا ..
و نكتشفها لرابع مرة في المعمل .. و في لحظة الاختراع التي نعثر فيها على سر من أسرار الطبيعة يبهرنا و يدهشنا ... و يصدمنا
كل هذه الاكتشافات تخرجنا من الزمن المبتذل و المتكرر .. زمن الساعات ..
و تنزل بنا إلى أعماقنا ..
إلى زمننا الحقيقي حيث كل شيء جديد و مبتكر .. مدهش .. جميل .. باعث لأقصى اللذة و الفضول ...
" إن دقات ساعة الحائط تقدم لك زمناً مزيفاً ..
ابحث عن زمنك الحقيقي في دقات قلبك .. و نبض احساسك .."
■ ■ ■
د. مصطفـى محمـــود
من كتاب : لغز الموت
الزمن
و لكن ما هو الزمن ؟
هل هو دقات ساعة الجامعة .. و النتيجة المعلقة بالحائط و التقويم الفلكي بالفصول و الأيام ..
...
إننا ما زلنا نذكر كلمات المراقب و نحن نؤدي الامتحان في آخر كل سنة ..
باقي على الزمن نصف ساعة ..
نذكر الرجفة التي كنا نحس بها و نحن ننظر إلى ورقة الإجابة و على ورقة الأسئلة ..
و إلى الساعة في يد المراقب .. و إلى شفتيه و هما تنطقان : باقي على الزمـــــــــن نصف ســـــاعة ...
كأنه ينطق حكماً بالإعدام .. أو حكماً بالإفراج ..
كانت النصف ساعة عند بعضنا قصيرة جداً .. أقصر من نصف دقيقة .. لأن ورقة الإجابة ما زالت بيضاء أمامه ..
و لأنه مازال يبحث .. و يهرش في رأسه ..
و كانت عند بعضنا الآخر طويلة مملة .. أطول من نصف يوم .. لأنه قد انتهى من الإجابة ..
كانت الساعة في يد المراقب تشير إلى زمن واحد .. و لكن كل منا كان له زمن خاص به ..
كان معيار الدقائق عند كل منا يختلف عن الآخر .. و هذا هو مفتاح اللغز ...
إن الزمن ليس شيئاً منعزلاً عنا مثل الشجرة و المحبرة و الكتاب.. ليس زمبلكاً تحتويه ساعة اليد و لكنه شيء يلابسنا
لكل منا زمن خاص به
عواطفنا و اهتماماتنا هي الساعة الحقيقية التي تضبط الزمن و تطيله أو تقصره
أفراحنا تجعل ساعاتنا لحظات .. و آلامنا تجعل لحظاتنا طويلة مريرة ثقيلة مثل السنين و أطول ..
إحساسنا بالسرعة و البطء ليس مصدره ساعة الحائط و لكن مصدره الحقيقي الشعور في داخلنا ..
إن ساعة الحائط تقدم لنا زمناً مزيفاً .. و مثلها التقويم الفلكي الذي يقسم حياتنا إلى أيام و شهور وفصول ..
و التاريخ الذي يقسم أعمارنا إلى ماض و حاضر و مستقبل .. لأن حياتنا غير قابلة للقسمة ..
و لأن الزمن في داخلنا غير قابل للقسمة أيضاً ..
إن حياتنا لحظة طويلة مستمرة يصاحبها إحساس مستمر بالحضور ..
و نحن نتعرف على الماضي من خلال الحاضر .. فحينما نعيش في إحساس بالتذكر نسميه ماضياً ..
و حينما نعيش في إحساس بالتوقع نسميه مستقبلاً .. و لكن كل هذه الإحساسات هي حاضر ..
و الفواصل بين الماضي و الحاضر و المستقبل فواصل وهمية لأن اللحظات الثلاث تتداخل بعضها في بعض
كما يتداخل الليل و النهار عن الأفق
و الذي يقوم بتعيين اللحظة في الشعور هو الانتباه
الانتباه هو الذي يضع خطاً تحت بعض مشاعرنا و إحساساتنا فيخيل لنا أننا وقفنا لحظة و الحقيقة أنه لا وقوف أبداً ..
و إنما نحن نعيش في حالة تدفق داخلي مستمر أبداً و دائماً ..
و الزمن الخارجي .. زمن الساعات و المنبهات زمن كاذب خدّاع لأنه يساوي بين اللحظات ويجعلها مجرد أرقام على ميناء ..
الساعة واحدة .. الساعة اثنين .. الساعة ثلاثة .. مجرد حركة من العقرب .. و انتقال بضعة سنتيمترات على الميناء ..
إنه ليس زماناً و لكنه أوضاع مختلفة في المكان .. أما الزمن الحقيقي فهو في داخلنا ..
و هو اضطراب دائم لا تتساوى فيه لحظة بأخرى .. لحظة صغيرة .. و لحظة كبيرة .. و لحظة تافهة ..
و هو غير قابل للتكرار .. لأن كل لحظة تحتوي على الماضي كله و معه علاوة من الحاضر ..
و في كل لحظة تضاف علاوة جديدة من التجربة و الحياة فلا تعود الحياة قابلة لأي تكرار ..
و إنما هي تعلو على الدوام مثل نهر جارٍ يزداد في الماء بين لحظة و أخرى .. و لا يتشابه فيه الماء في لحظتين متتاليتين ..
إن العالم داخلنا يختلف كثيراً عن العالم خارجنا ..
إن العالم خارجنا متعدد منقسم إلى أجزاء منفصلة متجاورة في المكان .. يمكن أن نشاهد فيه وحدات متكررة ..
و العالم داخلنا شيء آخر بالمرة
إنه تدفق لا تتشابه فيه لحظة بأخرى و لا يتكرر فيه إحساس واحد مرتين ..
و لا تتجاور لحظاته و إنما تتابع .. و تتلاحق .. و تتداخل في وحدة غير قابلة للقسمة هي حياتنا ..
و بهذا يكون هناك زمانان .. زمن نراه من الخارج على هيئة شروق و غروب و عصر و ظهر ..
و ساعات و دقائق .. و زمن آخر نشعر به من الداخل على شكل تدفق يتصف بالدوام و الاستمرار و الاتصال ..
و نحن نرى الزمن الخارجي بالعقل و ندركه بالتحليل و القياس و الحساب و نعبر عنه بواسطة الأرقام ..
و ندرك الزمن الداخلي مباشرة و بدون واسطة .. على شكل مكاشفة داخلية لكياننا ..
لذلك نقول عن الزمن الداخلي أنه الزمن الحقيقي لأن الحقيقة تطالعنا فيه عارية بدون وساطة و بدون رموز ..
و هذا النوع من الإحساس يشبه إحساسنا بالحركة ..
حينما نحرك ذراعنا فنحس أننا نحركه إلى فوق بدون حاجة إلى أن نراه ..
لأننا نحس بهذه الحركة من الداخل مباشرة بدون وساطة الرؤية ..
بينما يحتاج الذي يشاهدنا من الخارج أن يرى حركات ذراعنا بعينه و يتبعها و يحللها بعقله
ليقول أننا نحرك ذراعنا إلى فوق و معرفتنا نحن أرقى من معرفته لأننا نعاين الحقيقة مباشرة
و بهذه المعرفة اكتشفنا الزمن .. زمننا الحقيقي
و لكننا لا نعيش حياتنا كلها في الزمن الحقيقي لأننا لا نعيش في نفوسنا كل الوقت ..
و إنما نعيش في مجتمع .. نخرج و نختلط بالناس و نتبادل المنفعة و نتعامل و نتكلم و نأخذ و نعطي ..
و لهذا لا نجد مفراً من الخضوع للزمن الآخر .. زمن الساعات .. فنتقيد بالمواعيد و نرتبط بالأمكنة ..
و نبحث عن الأشياء المشتركة بيننا لنتفاهم .. و في أثناء بحثنا عن الأشياء المشتركة تضيع منا الأشياء الأصلية ..
العرف و التقاليد و الأفكار الجاهزة تطمس الأشياء المبتكرة فينا و تطمس الذات العميقة التي تحتوي على سرنا و حقيقتنا ..
و نمضي في زحام الناس و قد لبسنا لهم نفساً مستعارة من التقاليد و العادات .. لنعجبهم
و تتكون عندنا بمضي الزمن ذات اجتماعية تعيش بأفكار جاهزة و عادات وراثية و رغبات عامة لا شخصية ..
و هذه الذات سطحية ثرثارة تقضي وقتها في التعازي و التهاني و المجاملات و المعايدات و السخافات
و تنفق حياتها في علاقات سطحية تشبه المواصلات المادية التي توصل من الباب إلى الباب و لا توصل من القلب إلى القلب
و هذه الذات التافهة هي غير الذات العميقة التي نغوص إليها في ساعات وحدتنا و نكتشف فيها أنفسنا و نتعرف على وجوهنا الحقيقية ..
إنها ذات جامدة مثل الجسد تحكمها الغرائز و الضرورات الاجتماعية ..
و هي تشبه المرحاض النفساني نفرز فيه كسلنا و ضيقنا و مللنا و نقتل فيه وقتنا بانشغالات رخيصة تافهة
مثل قزقزة اللب و لعب الطاولة .. و نحن نتأرجح في حياتنا بين هذه الذات السطحية و بين الذات العميقة ..
نهبط مرة و نعلو مرة .. نعيش في زمن الساعات لفترة طويلة من يومنا في وظائف و أعمال آلية روتينية ..
و نعيش في لحظات قليلة متألقة في داخلنا في زمننا الحقيقي الجياش فنهتز بالنشوة و نشرق بالسعادة
و نرتجف بالقلق و نمتلئ بالفضول و اللذة و نعرف نفوسنا على حقيقتها و بكارتها ..
و نحن نكتشف هذه النفوس البكر في مغامرات قليلة ..
نكتشفها لأول مرة في مغامرة الحب حينما نعثر على المرأة التي تهز وجودنا ..
و تخترقنا و تخترق عادتنا و تفكيرنا و حياتنا و تقلبها رأساً على عقب .. فتبدو كأنها حياة جديدة عجيبة ..
و نكتشفها لثاني مرة في مغامرة الفن .. في لحظة الإلهام التي ينفتح فيها شعورنا على إدراك جديد
و تصوير جديد للدنيا .. فنكتب أو نغني أو نرسم أو نقول شعراً
و نكتشفها لثالث مرة في مغامرة التأمل و في الشعور العميق بالتدين .. في لحظة الجلاء الفكري
التي نضع فيها على حقيقة جديدة فينا أو في الناس حولنا أو في الدنيا ..
و نكتشفها لرابع مرة في المعمل .. و في لحظة الاختراع التي نعثر فيها على سر من أسرار الطبيعة يبهرنا و يدهشنا ... و يصدمنا
كل هذه الاكتشافات تخرجنا من الزمن المبتذل و المتكرر .. زمن الساعات ..
و تنزل بنا إلى أعماقنا ..
إلى زمننا الحقيقي حيث كل شيء جديد و مبتكر .. مدهش .. جميل .. باعث لأقصى اللذة و الفضول ...
" إن دقات ساعة الحائط تقدم لك زمناً مزيفاً ..
ابحث عن زمنك الحقيقي في دقات قلبك .. و نبض احساسك .."
■ ■ ■
د. مصطفـى محمـــود
من كتاب : لغز الموت
--
إلهي! وعزتك ما عصيناك اجتراءً على مقامك، ولا استحلالاً لحرامك، ولكن غلبتنا أنفسنا وطمعنا في واسع غفرانك، فلئن طاردنا شبح المعصية لنلوذنًّ بعظيم جنابك، ولئن استحكمت حولنا حلقات الإثم لنفكنها بصادق وعدك في كتابك، و لئن أغرى الشيطان نفوسنا باللذة حين عصيناك، فليغرين الإيمان قلوبنا بما للتائبين من فسيح جنانك، ولئن انتصر الشيطان علينا لحظات، فلنستنصرنَّ بك الدهر كله، ولئن كذب الشيطان في إغوائه، ليصدقن الله في رجائه.