Sunday, June 21, 2009

مال من هذا؟؟

مال من هذا؟؟

 

  حقا، هذا المال لمن؟..

  إن أي حديث عن العدل الإجتماعي قد يخطئ الهدف ويتفرغ الى غير ما حدود، إذا لم نمسك بالخيط الأساسي في الموضوع. أعني، إذا لم نعرف على وجه الدقة، لمن هذا المال الذي به ينضبط ميزان العدل أو يختل.

  وكما قلت من قبل، فإنك في أي مجتمع، إذا عرفت من يملك الثروة، فسوف تعرف من يملك القوة والسلطان، وستكتشف ـ بالتالي ـ من تشمله مظلة العدل، وأين تميل كفة الميزان.

  وفي المعسكر الرأسمالي إجابة السؤال في ملكية الأفراد والمؤسسات والشركات التي نما أخطبوطها وتضخم، حتى صارت عابر للقارات والمحيطات. وفي المعسكر الإشتراكي تتمثل الإجابة في ملكية الدولة لوسائل الإنتاج كما تقول الصياغات، أو ملكية الحزب كما يقول الواقع.

  أين الإسلام من هذا وذاك؟

  هنا يطرح الإسلام صيغة جديدة وفكرة مختلفة تماما. هو مال الله سبحانه. وترجمتها في الفكر الإسلامي وتطبيقات الذين فهموا الدين على وجهه الصحيح، أنه مال كل المسلمين، بل مال كل الذين يعيشون في " دار الإسلام"، ويستظلون برايته، مسلمين وغير مسلمين. ورغم أنه يعترف بالملكية الفردية ويصونها، لكنه يعتبرها ملكية انتفاع وتصرف، ومعلقة على شرط!

  وهذه الصيغة  جزء من تصور إسلامي عام، ورؤية شاملة للكون والحياة. بل هي نتيجة لبناء فكري وعقيدي، رصت لبناته في أعماق المسلم واحدة فوق واحدة، حتى بلغت هذا المدى السامق.

  هو مال الله وحده. ليس مال أحد من البشر، وإن تفاوتت بينهم قسمة الأرزاق. ليس مال مؤسسة اقتصادية أو سياسية، أيا كان حجمها، أو دعواها في الإنابة عن الناس وتمثيل طبقاتها العاملة.

  وكما أن التوحيد في العقيدة يعني نزع سلطان البشر من على البشر، إلا في حدود طاعة الله. فإن فكرة "مال الله" تعني نزع ملكية البشر لأقوات البشر وأرزاقهم. إلا في حدود ما شرعه الله. ولأنه كذلك، فلكل مسلم فيه حق أصيل، ينبغي أن ينتزعه بغير تردد إذا اقتضى الأمر، وإن مات دون ذلك فهو شهيد. وإذا جاع المسلم ترتج الأرض والسماء، وتحل اللعنة بالقادرين.

  هنا ينبغي أن نتمهل، أن نقف أمام النصوص التي تعزز هذه الرؤية، ونقرأها بإمعان شديد. لنتابع مراحل إقامة البناء، لبنة لبنة.

  ذلك أن "لله ملك السموات والأرض" ـ الشورى 49 ـ و "لله ما في السموات وما في الأرض" ـ البقرة 284.

  كل ما في السموات والأرض هو ملك لله لا ينازعه فيه أحد. "وليست لهذه الملكية نتائج حقوقية، وإنما هي لتحقيق غرضين أساسيين:

الأول نفي الغرور عن قلوب الناس حين يحوزون الأموال ويسعون وراء الثروة. فإذا تذكر المؤمن أن الله وحده هو مالك الملك. تواضعت نفسه وقلّ غروره ـ

والثاني أن يلزم الناس بالتقيد بقوانين الشريعة في التملك، طبقا لما يريده صاحب الملك، وهو الله عز وجل"* الدكتور مصطفى السباعي ـ إشتراكية الإسلام.

  وهذا الكون الكبير سخر لمصلحة الإنسان وسعادته وخدمته..

  " وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره. وسخر لكم الأنهار. وسخر لكم الشمس والقمر دائبين. وسخر لكم الليل والنهار" ـ إبراهيم 32 و 33.

  " ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" ـ لقمان 20.

  وذلك يعني: أنه ليس في الكون شيء يصعب  على الإنسان تناوله، إذا أعمل عقله وعلمه. وما عليه بعد أن ذلل الله له الكون إلا أن يجتهد في الانتفاع منه واستثمار خيراته.

  ويعني أيضا: أن البشر سواسية في الاستفادة من خيرات الأرض والسماء، إذ الخطاب للناس جميعا، بغير تمييز فئة أو جنس أو أمة. " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه" ـ الملك 15.

  ثم إن الناس جميعا متساوون أمام الله..

  " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" ـ النساء 1.

" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم". الحجرات 13.

  " إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا" ـ مريم 93 – 95.

  " يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب" ـ حديث رواه البزار.

  هنا يتوجه الخطاب للناس، للإنسان، وليس للمسلمين وحدهم، ولا لقريش أو العرب وحدهم. وليس لأحد أن يدّعي حقا لنفسه أكثر من غيره. بعمله الخير يتميز في الدنيا، وبتقواه يتميز في الآخرة. وهؤلاء هم الفائزون:" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون" ـ فصلا 8 ـ " ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا" ـ فصلت 33.

  وخلاصة الأمر أنه وقد تساوت الرؤوس في نقطة البدء، فـ ... " ليس للإنسان إلا ما سعى" ـ النجم 39، بقدر تقواه  لله، وبقدر عمله، أي بقدر سعيه وكده، يجني الثمار. بقدر رزعه يحصد.

  هذه مرحلة "التأسيس" في البناء إذا صح التعبير، أو مجموعة القواعد الأساسية التي تنبني عليها المواقف والسياسات في الإتجاهات المختلفة، في قضايا المال والحكم والسلوك الاجتماعي.

  لكن وقفتنا ستظل عند المال، عصب القضية الاجتماعية ومحورها...

هو مال الله... النصوص أمامنا تؤكد ذلك.

" وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" ـ النور 7.

" آمنوا بالله ورسوله، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" ـ الحديد 7.

  "قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة، وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية" ـ إبراهيم 31.

  ليس لأحد أن يدعي ملكية مطلقة للمال. فهو مال الله. والبشر مستخلفون فيه. أي انهم في إدارة المال خلفاء لا أصلاء. والجماعة هي التي تباشر شؤون الاستخلاف هذه.

  وللتذكرة يضيف القرآن الكريم:" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم. فهم فيه سواء. أفبنعمة الله يجحدون" ـ النحل 71.. أي أن ما يعطيه الذين فضلوا من الرزق لغيرهم، ليس ردا لقسط من مال أولئك الأغنياء الى هؤلاء الفقراء. كلا، إنما هو حق الفقراء الأصيل والأغنياء والفقراء سواء فيه. ومصدره واحد. وحق هؤلاء فيما ياخذون، كحق هؤلاء فيما يعطون. ثم هذا السؤال الاستنكاري: أفبنعمة الله يجحدون؟.. الذي يذكر بان هذا المال من نعمة الله سبحانه، لا ملكهم الأصيل* العدالة الإجتماعية في الإسلام ـ سيد قطب ـ دار الشروق.

  هي إذن ملكية انتفاع وتصرف، وليست ملكية مطلقة بغير قيود ولا شرط. إذ أن شرط استمرارها أن تنفق فيما هو خير. في كل إضافة إيجابية تسهم في سعادة الفرد والمجتمع. فإذا سقط الشرط سقط الحق، وجاز للجماعة أن تتدخل لتعيد الأمور الى نصابها. أو تسترد هذا المال الذي ينفق  على النقيض مما هو مخصص له والجماعة تمارس هذا الحق، وجاز للجماعة ان تتدخل لتعيد الأمور الى نصابها. والجماعة تمارس هذا الحق بمقتضى الخلافة الموكولة إليها:" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" ـ النساء ـ 5 ـ ( يؤيد هذا المبدأ أن الإمام هو وريث من لا وريث له باتفاق الفقهاء. على اعتبار أن مال الجماعة وظف فيه فرد، فلما انقطع خلفه، عاد المال الى مصدره).

  وصيغة هذه الآية تنسجم تماما مع التصور الذي نحن بصدده. إذ أن أموال السفهاء مضافة فيها الى المجتمع " أموالكم". كما أنها تعتبر المجتمع قيما على هذه الأموال "التي جعل لكم". وفي ذلك تأكيد على أن الملكية الفردية في التصور الإسلامي "وظيفة اجتماعية" بالدرجة الأولى.

  هنا يضيف الأستاذ سيد قطب قوله: إن شعور الفرد بأنه مجرد موظف في هذا المال الذي هو في أصله ملك للجماعة، يجعله يتقبل الفروض التي يضعها النظام على عاتقه، والقيود التي يحدد بها تصرفاته ( لتحقيق مصالحها). كما أن شعور الجماعة بحقها الأصيل في هذا المال، يجعلها أكثر جراة في فرض القيود وسن الحدود.

  في هذا الإطار، فإن للمسلم أن يستمتع بماله، ويمارس كافة صور الانتفاع والتصرف، بـ ".. الطيبات من الرزق"، كما يقول القرآن الكريم. و.. "كل ما شئت والبس ما شئت، ما خطئتك اثنتان: سرف أو أو مخيلة ( إسراف أو تعال وغرور)" ـ رواه البخاري . و.. " نعم المال الصالح للرجل الصالح" ـ رواه البخاري.

  فقط، ينبه القرآن الكريم الى محظور واحد هو: أن يحبس المال بين أيدي فئة قليلة [ كي لا يكون دولة (حكرا) بين الأغنياء منكم] ـ الحشر 7. أن يختل الميزان فيكون الاستمتاع "بالطيبات من الرزق" مقصورا على فريق دون فريق. أن يتمرغ البعض في النعيم، ويعاني الاخرون من الفاقة.

  هنا يحدث التصادم بين الواقع والتصور الإسلامي لقضية المال من أساسه. ويصبح هذا الواقع منتميا الى أي شيء إلا هذا التصور الإسلامي. فموقف كهذا يرفضه الإسلام وينكره، ويعتبر حدوثه جريمة تنتهك قداسة العدل المقصود من  الشريعة. ( لاحظ أننا نتحدث عن حالة قد يختل فيها الميزان فقط، ولم يصل الأمر بفقراء المسلمين الى حد الجوع، فتلك حالة أخرى لها حساب مختلف تماما).

وحتى لا يختل الميزان، فثمة توجيه إسلامي الى كل من يعنيه الأمر من القادرين:" وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" ـ الحديد7. أي لا تحبسوا مال الله ولا تكدسوه. كيف؟؟ " يسألونك ماذا ينفقون؟.. قل: العفو" ـ البقرة 219. والعفو هو كل ما زاد عن الحاجة.

  هنا يقرر القرآن مبدأ غاية في الأهمية هو: خذ حاجتك وكفايتك من المال، ثم ادفع بما يزيد الى سبل الخير والنماء. رده الى الله تعالى مرة أخرى.

  يؤكد ذلك الحديث الشريف:" من كان معه فضل ظهر [ دابة زائدة مثلا] فليعد على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على زاد له ـ ويقول شهود العيان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل".

  مرة أخرى: خذ كفايتك، واعط غيرك ما يزيد، فهو صاحب حق في هذا المال " وفي أموالهم حق للسائل والمحروم".

  و.. "من كان له طعام اثنين فليذهب بثالث. وأن أربع فخامس أو سادس" ـ حديث متفق عليه.

  وفي قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول الأغنياء فرددتها على الفقراء.

وفي قول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا، فيمنع من الأغنياء.

  وليست هذه دعوة للمغامرة. "فالتوجيه" يدعو أن يؤمن المسلم نفسه وأسرته، بان يحتجز نفقات أو قوت عام، زيادة في الاحتياط والأمان.

  وفي السيرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام سن في هذه السنة، وادخر لأهله قوت سنة.

  وقد أفتى الإمام جعفر الصادق بأنه لا يحق للمسلم أن يدخر أكثر من قوت عام، إذا كان في الأمة صاحب حاجة. وعندما طلب جرير الشاعر من الخليفة عمر ابن عبدالعزيز هبة اعتاد خلفاء بني أمية منحها إياه، كان رد الخليفة: إنني لا أرى لك في المال حقا. ولكن انتظر حتى يخرج عطائي، فأنظر ما يكفي عيالي سنة منه، فأدخره لهم، وإن بقي فضل صرفناه لك.

  وعند المالكية والحنابلة وفقهاء آخرين أن الزكاة التي تعطى لفقراء المسلمين ينبغي أن تغطي كفاية المسلم وأسرته لمدة سنة كاملة.

  ولنعترف أن تعبير "مال الله"، يمكن أن يساء استخدامه، كما أسيء استخدام تعبير خلافة الله، وهذه كلمات الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، تجسد هذا الاستغلال في أسوأ صوره، فقد وقف أمام جموع المسلمين يقول: إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسه بتوفيقه وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه!!

  ذلك أنه إذا مال الهوى، وصارت الدنيا هدفا، فليس أيسر من أن يزعم الزاعمون أنهم يمثلون المشيئة الإلهية، وأن لهم حقا فوق حقوق البشر.

  أين هذا مما يقوله النبي عليه السلام، إني والله لا أعطي أحدا، ولا أمنع أحدا، إنما أنا قاسم، أضع حيث أمرت! وهو ما استند اليه الإمام ابن تيمية في "السياسة الشرعية"، في قوله: إنه ليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه.. إنما هم أمناء ونواب ووكلاء ليسوا ملاكا.

  وأين هو من قول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد. وما أنا أحق به من أحد. والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب. ووالله لأوتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال، وهو يرعى مكانه.

  وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي اشتكى يوما، فوصف له العسل، وفي بيت المال بعض منه. فلم يجرؤ على أن تمتد يده إليه، وهو خليفة المسلمين، إلا بعد أن يقف على المنبر وقال: إن أذنتم لي فيها، وإلا فإنها عليّ حرام.

وهو الذي سئل ما يحل له من مال الله فقال: يحل لي حلتان واحدة في الشتاء وأخرى في القيظ. وما أحج عليه وأعتمر، وقوتي وقوت اهلي كقوت رجل من قريش، ليس بأغناهم ولا بأفقرهم. ثم أنا رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم.

  وبمثل هذا المنطق تصرف الخليفة عمر بن عبدالعزيز، عندما أرسل إليه بنو أمية من يطالبه بأن تستمر امتيازاتهم المادية في عهده، فكان رده: والله ما هذا المال لي، وما إلى ذلك من سبيل.

  وهو الذي جاءه مبعوث لأحد الولاة عندما همّ بالنوم، فأذن له وأشعل شمعة غليظة " أججت نارا"، وظل يسأله عن أحوال المسلمين، وعندما فرغ، شرع المبعوث يسأله عن أحواله وشؤون أسرته. وعندما أطفأ أمير المؤمنين الشمعة، ودعا بسراج لا تكاد فتيلته تضيء. فتعجب المبعوث، وسأله لما فعل ذلك. فكان رده: ان الشمعة التي رأيتني أطفأتها إنما هي من مال الله ومال المسلمين، وكنت أسألك عن حوائجهم وأمرهم، فكانت الشمعة تقد بين يدي فيما يصلحهم وهي لهم. فلما صرت لشاني وأمر عيالي ونفسي، أطفأت نار المسلمين.

  هكذا استوعبوا فكرة "مال الله" وهكذا تعاملوا مع مال المسلمين..

  وهكذا أمسكوا بمفاتيح العدل والمجد..

  لكننا ما زلنا في بداية الطريق، وأمامنا الكثير مما ينبغي أن يقال..

 

من كتاب

القرآن و السلطان

فهمى هويدى

 

 



--
        mohamed chehata  
           
http://groups.yahoo.com/group/awlea2allh/


--~--~---------~--~----~------------~-------~--~----~
لقد تلقيت هذه الرسالة لأنك مشترك في مجموعات جوجل "بيانات و أخبار دورية من النور" مجموعة.
 لتقوم بارسال رسائل لهذه المجموعة ، قم بارسال بريد الكترونى الى bayanatalnor@googlegroups.com

-~----------~----~----~----~------~----~------~--~---

No comments:

Post a Comment